الخميس، 11 ديسمبر 2008

بقلم دكتور/ عبدالرحمن توفيق
التدريب مهنة لها أصول وقواعد ومبادئ وقيم عمل، تحكمها وتصيغ مسارات التقدم بها. ومثلها في ذلك مثل أي مهنة أخرى، تخضع دائما للتطوير والتحسين المستمر، وتمر كذلك بمراحل نضج متدرجة ومتجددة، يتفاوت نصيب كل أمة منها حسب عمق ومدى الدعم المادي والمعنوي الذي تلقاه عوامل عديدة باتت تحكم سرعة نمو مهنة التدريب واستقرارها، وآفاق جديدة أصبحت بمثابة الأرقام القياسية الجديدة التي علينا أن نصل إليها ونجتازها ونحطمها وصولا إلى معايير أرقى وأعلى عناصر هذا النشاط. إن الاهتمام بالتدريب والتنمية البشرية في مصر يأخذ صورا عديدة ومتعددة، ويتزايد يوما بعد يوم حتى أصبح من بين العديد من القضايا التي تشغل الرأي المهني والعام. لذا قد لا يكون من الملائم الإشارة إلى عدة نقاط لازمة لزيادة فعالية العملية التدريبية، وكذلك الأخذ بمعطيات التقدم المهني والتكنولوجي لمهنة التدريب والبدء من حيث انتهى الآخرون.عندما سئل Jack Welch رئيس مجلس إدارة جنرال إليكتريك عن أسرار نجاحه في إدارة هذه الإمبراطورية الصناعية الضخمة، أشار إلى أنه يقوم فقط بثلاثة مهام رئيسية: الاختيار الدقيق للأفراد والمساعدين، ثانيهما: الاختيار الدقيق لمجالات الاستثمار المالي، والثالثة: وهي (نقل) المعلومات والبيانات من إدارة إلى أخرى (بسرعة البرق)..ولعل المهمة الثالثة تكاد تكون أهم هذه المهام التي تشغل بال المسئول الإداري عن سواها. أسواق هذا المثل فقط لأشير إلى أن التدريب في النهاية هو مهنة (نقل، تحريك، تحويل، تغيير) فوظيفة التدريب هي (نقل Shift) المعرفة والمهارة والعلم من المدرب إلى المتدرب سواء كان المدرب: فرادا.. أو آلة.. أو برنامجا.. وعليه فإن كفاءة النقل مرتبطة بكفاءة آليات النقل (الثلاثة). ويجب على التدريب أن ينتهي في النهاية إلى (تحريك Upgrading) المستوى المهاري والمعرفي للمتدرب من مرحلة أو درجة إلى درجة أعلى بنفس التخصص أو المهنة أو المسار الإداري أو الفني، مثلا من رئيس قسم إلى مدير إدارة. وينطوي التدريب كذلك على (تحويل Transfer) المتدرب من عمل إلى آخر، أو من مهنة إلى أخرى كأن تحول عاملا للنظافة إلى موظف أمن، أو تحول موظف أمن إلى مندوب مشتريات.كما ينطوي التدريب في بعض أجزائه على إحداث (تغيير Change) مخطط ومدروس في سلوكيات واتجاهات المتدرب، ولا سيما إذا كان التدريب للمستويات الإدارية العليا، حيث يتم التركيز على تعديل أو تغيير سلوكي في اتجاهات القيادة الإدارية أو في طريقة أدائها. ومثال ذلك تدريب القادة الإداريين، ورجال الأعمال على التفكير الاستراتيجي وإدارة الأزمات ومهارات التفاوض الفعال..إن هذه العمليات الأربعة (النقل، التحريك، التحويل، التغيير) تمثل الركائز الرئيسية لأي نشاط تدريبي، وتمثل في الوقت نفسه الأهداف الرئيسية لأي جهاز تدريبي. بل يمكن التأكيد على أن قياس كفاءة المؤسسات التدريبية إنما يكمن في النهاية في مدى قدرتها على تحقيق هذه الأهداف الأربعة:1- فعالية عملية (التعلم) بما يضمن سلامة ودقة وسرعة (نقل) المعلومات والمهارات من (المدرب) إلى المتدرب (المتعلم).2- فعالية عملية (التحريك) أو التصعيد لأعلى من حيث شدة الارتباط بين محتوى التدريب في البند (1) وبين الوظيفة التي سيتحرك (سيرقى عليها) المتدرب.3- فعالية عملية (التحويل) من تخصص أو مهنة إلى تخصص ومهنة مختلفة، ويمكن هنا اعتبار (الإدارة) مهنة بمعنى أن التحول من وظيفة فنية عليا (كبير مهندسين) مثلا إلى وظيفة (مدير عام) مشروع هي في حقيقة الأمر بمثابة تحول Transfer من عمل فني تخصصي إلى عمل إداري إشرافي.4- فعالية عملية إحداث التغيير بمعنى التثبت من مدخلات التغيير وتثبيت ما استقر عليه الوضع المهاري الجديد، وذلك بهدف زيادة نسبة احتجاز المهارة Retention الجديدة لدى المتدرب وتدعيم السلوك الجديد، وتقليل درجة ارتداده لسلوكيات ما قبل التدريب أو النكوص Regression.إن كانت تلك هي الأهداف والنتائج التي تمثل ركائز التدريب، فإن مستلزمات توفرها يجب أن تأخذ في الحسبان أربعة أمور رئيسية:الأمر الأول : التخلص من بعض الاعتقادات السلبية عن التدريب.الأمر الثاني: التأكد من تطبيق المبادئ والبديهيات المهنية الخاصة بمهنة التدريب.الأمر الثالث: توفير آليات التواصل مع آفاق التدريب الحديث لتحديد موقعنا على خريطة التغيير الحادث في مهنة التدريب.الأمر الرابع: صياغة المستقبل المرغوب تحقيقه لمواردنا البشرية المصرية صياغة استراتيجية تتضمن وضع سيناريوهات محددة لما سيصبح عليه التدريب بالمستقبل.وبالنسبة للأمر الأول: فنحن نحتاج إلى التخلص من بعض الاعتقادات الخاطئة عن التدريب، ومنها أن التدريب هو الجندي المجهول في لواء الإدارة، وأن من يعملون به هم أقرب إلى رجال العلاقات العامة بما يميزهم من مهارات الاتصال، والود، والترابط الاجتماعي من كونهم ناقلي علم وخبرة ومعرفة.الاعتقاد الثاني: أن التدريب متهم دائما بتقديم فاتورة حساب ليثبت براعءته من تهمة الإنفاق غير الرشيد.الاعتقاد الثالث: أن نجاح التدريب مرتبط بدعم الإدارة العليا له.والاعتقاد الرابع: الاعتماد على نماذج تقييم البرنامج كوسيلة لقياس مدى نجاح البرنامج.واعتقادات خاطئة أخرى عديدة ارتبطت بمهنة التدريب، وطالبت قوى التفكير باتجاه التغيير المخطط لهذا النشاط الحيوي.والأمر الثاني: يركز أساسا على أهمية تطبيق أسس ومبادئ تعليم الكبار في عملية التدريب واتباع نظريات التعلم في تصميم البرامج التدريبية، وكذلك عند اختيار المدربين، ومن بين المبادئ الحاكمة في أداء العمل التدريبي المبادئ الثلاثة التالية:أولا: كلما قلت الفترة الزمنية بين وقت التعلم أو التدريب، وبين وقت التطبيق، كلما زادت إمكانية تطبيق المتدرب لما تعلمه من النشاط التدريبي، والعكس صحيح.المبدأ الثاني: وهو مبدأ المشاركة بمعنى كلما زادت مشاركة المتدرب في العملية التدريبية كلما زادت استفادته منها، وهو ما يعني ضرورة الاعتماد على أساليب التدريب بالمشاركة.أما المبدأ الثالث: فهو واقعية المادة التدريبية من حيث ارتباطها بخبرة المتدرب وطبيعة عمله، فكلما زاد الارتباط بين ما يتلقاه وبين واقعه الوظيفي، كلما زادت استفادته من العملية التدريبية.وفي ضوء هذه المبادئ الثلاثة.. يمكننا أيضا تحديد صور الخلل في العمل التدريبي والتي ترجع أساسا إلى عدم تطبيق المبادئ الثلاثة السابقة وقت غير ملائم للتدريب، اعتماد التدريب على المدرب دون مشاركة المتدرب، تلقين المتدرب أسس ونظريات أو تطبيقات بعيدة عن الواقع العملي للمتدرب.أما الأمر الثالث: فهو ضرورة الإسراع بتوفير تكنولوجيا التدريب العصري من خلال الدراية والمعرفة الفنية لآليات التدريب، وتسهيل الحصول على هذه المعرفة، واستغلال المعرفة المتاحة في أماكن أخرى من العالم وتطويعها، وكذلك خلق وتدعيم المعرفة من خلال خلق ركائز حماية الملكية المهنية والفكرية لعناصر التدريب (البرامج، المناهج، برامج الحاسب الآلي، الأفلام التدريبية…الخ)، فكلما زادت حماية الدولة لجودة المعرفة التدريبية، كلما ازدهرت مهنة التدريب. ولعل الآفاق الجديدة للتعلم والتعليم والتدريب متمثلة في التدريب عن بعد Distance Learning ، التعليم المفتوح Open Learning, والتعليم المرن Flexible Learning هي التي دفعت المنشآت الكبيرة إلى الإسراع ببناء وإنشاء مراكز التعلم المؤسسي Corporate Learning Centers تلك المراكز التي صارت جزءا رئيسيا من الهيكل التنظيمي للمنشآت الضخمة حتى تضمن التدفق المستمر للمعرفة لجميع العاملين بها، وأن يتم هذا التدفق بجودة محددة مقننة، وغير ذلك من آليات أو آفاق التدريب الجديدة، كالتعليم المتواصل On-Line Learning أو التعليم بالإنترنت Learning over the Internet أو التعلم بالشبكة العنكبوتية الدولية Web Based Training.إن الناظر إلى هذه الآليات الجديدة للتدريب، ولتوصيل المعرفة التدريبية يتضح له أن الاتجاه السائد الآن في هذه المهنة يأخذ مسار تدعيم اعتماد المتدرب على نفسه في عملية التدريب والتطوير، والتقلص التدريجي لدور المدرب إن لم يكن قد تحول دوره ليصبح ميسرا أو مديرا للعملية التدريبية Facilitator أكثر من كونه مدربا أو ملقنا أو ناقلا للمعرفة. نحن في حاجة إلى مراكز تعلم مؤسسي تضمن سرعة نقل المعرفة، سهولة تدفقها، تغطية احتياجات الأعداد الكبيرة من طالبي الخدمة التدريبية، توحيد المهارة والمعرفة، سرعة إدخال التعديلات الجوهرية في المعرفة وأساليب اكتساب المهارة والمعرفة، سرعة إدخال التعديلات الجوهرية في المعرفة وأساليب اكتساب المهارة، إن قطاعات الخدمات الجماهيرية العريضة كالصحة والتعليم والأمن والنقل تحتاج إلى العديد من مراكز التعلم عن بعد.. وكذلك القطاعات الاقتصادية والمنشآت الصناعية الضخمة ذات العمالة (الكثيفة) تحتاج بنفس القدر إلى إنشاء مراكز تعلم مؤسسي.أما الأمر الرابع: وهو صياغة مستقبل التدريب في مصر، فإننا نحتاج إلى دراسة العديد من السيناريوهات الخاصة بثلاثة محاور رئيسية: تسهيل الحصول على المعرفة التدريبية من مصادرها العالمية المتعارف عليها. تدعيم نقل المعرفة بالسرعة اللازمة من خلال التكنولوجيا الحديثة للتعلم واقتناء واستيعاب الآليات الخاصة بها. زيادة المعرفة بأدوات قياس جودة التدريب والعمل على تعلمها، اقتنائها، توثيقها، تطبيقها.. وذلك بالنسبة لعناصر العملية التدريبية المختلفة (المدرب، المتدرب، الوسائل، الأساليب، البرامج، الجهات، المسئولين،.. الخ).إن قدور المعرفة الخاصة بقياس جودة التدريب يصعب الوفاء بها دون تدخل قوي من جانب الحكومة التي تضع القوانين اللازمة لأداء تدريبي معترف به ابتداء من معايير اختيار متدرب أو انتقاء مدرب.. إلى الحصول على شهادة تدريبية معترف بها عمليا وأكاديميا على المستوى المحلي والدولي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق